هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة .. ويتصل نسبه إلى عدنان ولد إسماعيل عليهما الصلاة والسلام .
ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل بمكة، وكانت ولادته يوم الاثنين، وطلبوا له مرضعاً، فأرضعته حليمة السعدية، وظهرت بعض الآيات والبركات خلال مدة مكثه في بني سعد .
وقد سأل أبو أمامة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: (دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام) ( ) .
أما والده عبد الله فقد توفي وآمنة بنت وهب حامل به صلىالله عليه وسلم، وتوفيت أمه وهو لم يستكمل ست سنين بالأبواء وهو مكان يقع بين مكة والمدينة، فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً وكفله جده عبد المطلب، وكان يحبه حباً شديداً . ولما توفي عبد المطلب، تولى أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يرق عليه رقة شديدة،وكان يقدمه على أولاده .
ولما بلغ اثنتي عشرة سنة خرج به عمه أبو طالب في تجارة إلى الشام، ولما رآه بحيرى الراهب، أشار على أبي طالب بأن لا يقدم به الشام خوفاً عليه من اليهود، فأمر أبو طالب بعض غلمانه أن يعود به إلى مكة .
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، وبلغ خديجة صدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأمانته وكرم أخلاقه، عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى الشام يتاجر بمالها، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورافقه غلامها ميسرة، ولما رجع من تجارته تلك ، عرضت خديجة بنت خويلد نفسها عليه فتزوجها صلى الله عليه وسلم وعمرها إذ ذاك أربعون سنة ، وانجبت خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم : القاسم، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة رضوان الله عليهن .
ولقد حُبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم التحنث في غار حراء فكان يتزود، ثم يخلو بنفسه في غار حراء أياماً . وقد سبق نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمات منها : الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ومنها: سلام الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ( ) .
وبدء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعٌ ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ( ).
وبعد أن أوحى الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وكانت بها نبوته، أرسله الله بـ : { يا أيها المدثر ، قم فأنذر } فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد، ونبذ الأصنام، فبدأ بدعوة قومه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي) قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال : (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا . فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب} ( ) .
ثم دعا أهل مكة، فكان أول من آمن به من الرجال أبو بكر الصديق، ومن النساء خديجة بنت خويلد، ومن العبيد بلال بن رباح . وآمن به علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان ابن ثمان سنين وقيل أكثر من ذلك . فمن كانت له منعة لم ينله أذى، ومن لم تكن له منعة عُذب، ومنهم بلال وآل ياسر، وهم عمار بن ياسر وأمه سمية وأبوه ياسر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم ويثبتهم ويقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة . وعذب بلال بن رباح حتى اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً.
وضيق على المسلمين في مكة حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة . ثم عادوا لأخبار وصلتهم أن قريشاً كفت أذاها عن محمد وأصحابه، ولما وصلوا مكة لم يزل البلاء يشتد على المسلمين حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة الثانية إلى الحبشة وكان عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وتسع عشرة امرأة . وحاولت قريش إرجاع من هاجر إلى الحبشة عبر وفد قدَّم كثيراً من الهدايا للنجاشي ملك الحبشة، ولكن رد الله كيد الكافرين، وأبى النجاشي تسليمهم لقريش.
وحاولت قريش مع أبي طالب أن يكف عنهم محمداً فلا يسفه آلهتهم، أو يخلي بينه وبينهم، فأبى عليهم ، ودعا أبو طالب أقاربه لنصرته فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب، غير أبي لهب وقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهــم حتى أوسد في التراب دفينـا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر وقرّ بذاك منك عيونـا
ودعوتني، وعرفت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينـا
وعرضت ديناً قد عرفت بأنـه من خير أديان البرية دينــا
لولا الملامة أو حذار مسبـــة لوجدتني سمحاً بذلك مبينــا
ثم اشتد أذى قريش، وضربت على بني هاشم وبني المطلب والمسلمين الحصار في الشعب، وتعاهدت قريش على أن لا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يناكحوهم،ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولبثوا على ذلك مدة ثلاث سنين، نال فيها المسلمين ومن دخل الشعب معهم من الأذى والجوع والعطش ما الله به عليم . ثم تعاقد هشام بن عمرومن بني عامر، وزهير بن أبي أمية، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، والمطعم بن عدي- على نقض الصحيفة، فاجتمعوا عند الكعبة، وتبرؤوا إلى الله من أمر هذه الصحيفة الجائرة، وطلبوا نقض الصيحفة فكانت الأرض قد أكلت كل اسم لله فيها، وأبقت ما فيها من ظلم وغدر . وانتهت بذلك محنة الشعب، بعد حصار دام ثلاث سنين .
وبعد الخروج من الشعب بستة أشهر مات أبو طالب، ولم يُكتب له الإسلام، ثم ماتت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك حزناً شديداً، فمات من كان يحوطه ويحميه بعد الله، وماتت زوجه خديجة التي كانت تثبته وتعينه .
وازداد أذى قريش للمسلمين، وازداد المسلمون صلابة في دينهم لما رأوا من الآيات الكونية والقرآنية على صدق النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم . وكان كفار مكة يرسلون إلى اليهود يسألونهم عن مسائل يحاجون بها محمد صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف، وكان القرآن ينزل ويرد عليهم حججهم وباطلهم، ويخبرهم بأمور لا يعلمها أهل الكتاب . وحاولوا إغراء محمد صلى الله عليه وسلم بالمال، أو الجاه، أو تنصيبهم ملكاً عليهم، أو تزويجه أجمل نساء قريش؛ ولكنه أعرض عنهم ليبلغ رسالة ربه .
ولم يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، واتهموه بالجنون والسحر والكهانة، ورموه بالكذب، مع أنهم هم الذين سموه بالصادق الأمين ! . وآذوه حتى وهو يتعبد لربه عند الكعبة، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً عند الكعبة وكفار مكة ينظرون إليه، ثم تشاورا أيهم يأخذ سلا الجزور ويضعه على ظهره، فانتدب لذلك عقبة بن أبي معيط وكان أشقاهم، فوضعه على ظهره صلى الله عليه وسلم، فجاءت فاطمة بنت محمد وأزالت سلا الجزور عنه وهي تسبهم .
ثم تعرض له الوليد بن المغيرة، وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فأعجب به، وقال فيه قولاً حسناً؛ فقال: فوا الله ما هو بسحر ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، ثم خشيت قريش من ذلك، فما زال أبو جهل يكلمه حتى نكص على عقبيه وقال إنه هو إلا سحر يؤثر . قال تعالى: { إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر * عليها تسعة عشر }.
ولم يزل العناد والتكذيب يلازم كفار مكة، حتى إنهم طلبوا من رسول الله صلىالله عليه وسلم أن يريهم آية عظيمة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يريهم آية، فأراهم الله القمر وقد صار فلقتين ، كل فلقة في جهة، ولما رأى ذلك أهل مكة قالوا: سحرنا محمد . ولكن كذبهم كل من أتى قادماً إلى مكة فإنهم أخبروا برؤية انشقاق القمر، ومع ذلك لم يؤمنوا بل عاندوا واستكبروا .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى عبادة ربهم، فأقام بينهم عشرة أيام يدعو أشرافهم، فأخرجوه من الطائف، وأغروا السفهاء والصبيان برجمه بالحجارة، وبأقذع الكلام، فأدميت قدماه صلى الله عليه وسلم ، وانطلق هائماً فقال الدعاء المشهور : ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعو ذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولاحول ولا قوة إلا بالله ) . فأرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، وأخبره أن شاء أطبق على أهل مكة الجبلان اللذين يحيطان بها فعل، ولكن الرسول الرؤف الرحيم بأمته، قال : ( بل استأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً ) .
وقبل مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بسنة، أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء السابعة . قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }. فأتاه جبريل في مكة بدابة يقال لها البراق، وركبها النبي صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى بيت المقدس، وصلى فيه إماماً بالأنبياء ، ثم عرج به إلى السماء السابعة، ورأى في كل سماء بعض الأنبياء؛ فرأى آدم وعيسى وموسى وإبراهيم وغيرهم . ثم لما بلغ سدرة المنتهى، أوحى الله إليه وكلمه ، وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة يؤدونها كل يوم، ثم ما زال موسى بمحمد صلى الله عليه وسلم يسأله أن يراجع ربه في تخفيف الصلاة لأن أمته لا تطيق ذلك، حتى استقرت على خمس صلوات بالفعل، وخمسين صلاة بالأجر فضلاً من الله . ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في تلك الليلة وأخبر أهلها بالخبر، كذبوه وتهكموا به، وطاروا بتلك الحادثة كل مطار، وذهبوا سريعاً إلى أبي بكر ليخبروه خبر صاحبه، فلما كلموه في خبره، قال أبو بكر: إن كان قاله فقد صدق . فسمي أبو بكر بعدئذ بالصديق . ثم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بصفة بيت المقدس، ورسول الله لم ير بيت المقدس بعد، فجلى الله له بيت المقدس كأنه يراه، فأخذ ينعت لهم بيت المقدس فأعجزهم ورد الله كيد الفجار.
وفي المواسم كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل، وكانت قريش تحذر القبائل من اتباعه، وتقول إنه مجنون وإنه ساحر وإنه سفيه، حتى ينصرفوا عنه، فقُدر لنفر من الخزرج أن يلتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أبو أمامة أسعد بن زرارة . فسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته وقرأ عليهم القرآن، فأعجبوا بكلامه، وقد كانوا سمعوا اليهود يتحدثون عن خروج نبي في هذا الزمان، فآمنوا به ووعدوه أن يدعوا قومهم لعل الله يجمعهم به .
وعاد القوم إلى ديارهم وفشا فيهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمن من آمن منهم، وفي العام المقبل –وفي الموسم- قدم اثنا عشر رجلاً من الأنصار وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقوه بالعقبة وبايعوه بيعة العقبة الأولى، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه يعلمهم دينهم ويفقهم فيه، فكثر الإسلام في يثرب جداً .
وفي الحج خرج كثير من الأنصار وعدتهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان لملاقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وواعدوه أوسط أيام التشريق عند العقبة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العباس بن عبد المطلب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ) فأخذ بيده البراء بن معرور وقال: نعم فو الذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى طيبة، وكان ينتظر الإذن من ربه بالهجرة، ولما رأى كفار مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صارت له منعة في يثرب ، أرادوا منعه من الخروج، واجتمعوا وتشاوروا في أمره ، وخرج عليهم إبليس في هيئة رجل من أهل نجد وأشار عليهم بأن يأخذوا من كل قبيلة شاباً جلداً ثم يقتلوه قتلة رجل واحد، فعندئذ يتفرق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو مناف على حربهم جميعاً ويرضون بالدية؛ فأعجبوا برأيه وقوله، فاجتمعوا على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وأوحى الله إلى نبيه بأمرهم، وأمر علياً بأن يرقد على فراشه ولن يمسه سوء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } إلى قوله : { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون }، فأُلقي عليهم ووضع رسول الله صلى التراب على رؤوسهم وهم لا يشعرون ثم انصرف عنهم مهاجراً، ولما أفاقوا وأبصروا ما ألقي عليهم طلبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في فراشه، فلم يجدوه ووجدوا علياً مكانه، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجر. -وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته أبو بكر الصديق، وتلك منة من الله، وفضيلة لأبي بكر أن اختصه الله من بين سائر المؤمنين في أن يكون له شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره إلى المدينة . واستأجرا رجلاً من بني الديل وهو عبد الله بن أريقط، هادياً يدلهم الطريق .
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاصدين غار ثور، أمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما الأخبار، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم، ويريح الغنم عليهما ويأتيهما في المساء باللبن ، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار فإذا خرج من عندهما، عمد عامر بن فهيرة، وساق الغنم لكي تعفي أثره . وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهم بالطعام في المساء، فمكثا في غار ثور ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام جاء عبد الله بن أريقط حسب الموعد المتفق عليه بدابتين، وسلك بهم طريق الساحل. وجعلت قريش جائزة كبيرة لمن يأتي بهما أحياء أو أمواتاً، ونفر الناس للبحث عنهم، وخرج سراقة بن مالك يطلبهما، فأدركهما ولكن الله لم يمكنه من الوصول إليهما، فكلما أراد أن يصل إليهما ساخت فرسه في الرمل، وذلك ثلاث مرات، حتى طلب الأمان، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم أنه محفوظ من الله وأن الله ناصره، فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاب أمن ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة فكتب له ذلك، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفي عن قريش خبرهما، فعاد إلى قومه ولم يسأله أحدٌ عن جهته التي أتى منها إلا قال كفيتم هذا الوجه .